كان كلما ضاقت أحوال الدنيا عليه ... يذكر كنزه الثمين الذي سينقذه من ضيق العيش ومرارة الواقع إلى فُسحة الحياة وسَعة الرزق .
كنت صغيراً.. حينما سمعت ُ جدي يذكر كنزه الغالي الذي يخبّئه للأيام الصعبة ...وبحسب ماذُكر لي وعايشت من أحداث ... كان عند جدي صندوق صغير فيه دنانير ذهبية ورثها عن والده وجده ...كان صندوقاً خشبياً بسيطاً منقوشاً برسوم نحاسية فنية له قفل صغير ملوّن .. يلفّه جدي بقطعة قماش حريرية قديمة مطرزة يدوياً بأجمل الزخارف والألوان .
ذكر لي والدي حين سألته عن سر الصندوق أنه .. كنز العائلة .... تدّخره للأيام الصعبة التي من الممكن أن تمرّ عليها... في يومٍ من الأيام ......؟؟؟
وطبعاً ... لم تكن من تلك الأيام الصعبة ...!!! يوم بحث جدي عن منزل جديد يسكنه مع زوجته وولده الوحيد بعد أن هاجر من قريته بسبب القحط وقلة الرزق ، ليبحث عن عملٍ في أرضٍ جديدة ومكانٍ بعيد ... محتضناً صندوقه الذي سيساعده حين يفتر العزم وتهون القوى ....
وبعد أن وجد العمل المناسب والسكن المطلوب بهمّته وعزمه ... وبعد أن كبُر ابنه ...لم تكن ... من الأيام الصعبة ... !!!!
أيام طلب منه بعض النقود ليكمل دراسته ويبدأعمله فقد كان بحاجة لأموال سدّدها هو ووالده مع بعض الفوائد من ديون استلفها من هنا وهناك ....
ولم تكن من الأيام الصعبة ..!!! أيام توفيت جدتي وهي تخبز العجين نتيجة جهدٍ مفرط أصابها بعد عملية جراحية فٓرضتْ عليها الراحة والاستلقاء ....!!!!
كبُرتُ ولم أكن أعلم تفاصيل الكثير مما مرّت بها عائلتنا .. ولكني بدأت شيئاً فشيئاً أكتشف مااعتبرٓتْهُ أسراراً وخصوصيّة ... لاأملك إلا الاحتفاظ بها لنفسي ... أو البوح بها لأفرادها أنفسهم ... أو مشاركتهم بعض مواقفها ....!!!
كنتُ كل مساء أستمع إلى أحاديث جدّي الشيّقة وأمنّي نفسي بما يقدّمه لي من آمال وأحلام ..ومستقبل مشرق خالٍ من الصعوبات والعقبات ...
ستفتح الدنيا ذراعيها لنا ذات يوم وسنكون بمنأى عن الحاجة والفقر حين تشتدّ الأزمات بمن حولنا وسنستمتع بمالدينا حين تفرض علينا الظروف ذلك ...!!!
كان حائطاً قوياً أستند عليه حين تضيق بي الدنيا ...فكونكَ تملك رصيداً احتياطياً كبيراً سيساعدك بالوقوف على أرضٍ صلبةٍ بثقة وتفاؤل ...ويمنع عنك الإحباط والاستسلام للعجز .
نعم كانت هذه حالتي في كل مرة أحادث بها جدي أو يحادثني ...وهو يشير إلى ذلك الصندوق القائم على رفّ من رفوف خزانته القديمة .. بكل كبرياء .
دخلتُ المدرسة وكان أبي ذاك التاجر الماهرالذي يؤمّن لأسرته ماتحتاج إليه من أسباب العيش الطيب وأخذ يحقق نجاحاً تلو الآخر باعتماده على الله وعلى ذاته ... وعلى بعضاً من أحلام قد يحققها ذاك الصندوق في يومٍ صعبٍ ...قد .... يأتي ....!!!!.
سألتُ أبي ذات يوم أن يوسّع من دائرة أعماله وأن يأخذ من مال الصندوق لتزداد الأرباح والثروة ، لكنه فضّل الإبقاء عليه لحين.. ماسمّاه ..الحاجة والضرورة ....؟؟؟
تخرّجت من جامعتي وبدأتُ أبحث عن عمل يؤمن لي حياة كريمة مستقلة بعض الشيء ....
ومرّت الأيام .... وأخذت ظروف الحياة تضيق علينا شيئاً فشيئاً ...ومرض جدي ....
لم يكن لدينا من بديل ... جاءت الأيام الصعبة بكل ثقلها على كاهلي وكاهل أبي .....و نحن بأمسّ الحاجة للمال لإجراء عملٍ جراحيّ لجدي قد يعيد له بعضاً من صحته المفقودة .
حمل أبي الصندوق محتضناً إياه بكل قوته لأن فيه الخلاص والحياة وانطلق إلى السوق لعرض كنوزه على من يقدّرها ....!!!
كنت إلى جانب جدي لاأغادره ... وصحته تتدهور لحظة بعد أخرى ، أمسح عرقه المتصبب من جبهته وأحيطه بذراعيّ ...وكلي أمل أن يعود كما كان قوياً منتصباً عظيماً ...
بدأت أنفاسه تتسارع ...وأخذ قلبه يعلو بالخفقان ....وقلبي يخفق معه على أمل عودة أبي مع ما يحمل لإنقاذ جدي .
تأخر أبي .. واضطررت لاستدعاء جاري الطبيب الذي بدأ بدوره ... بقياس النبض ... وفرك الأطراف ...ولكن ....فارق جدي الحياة وأعلن الطبيب وفاته ..
وفي نفس اللحظة دخل أبي حاملاً الصندوق الذي غادر به ...جمع أنفاسه واختنق صوته ليخبرنا أن النقود الذهبية التي حافظ عليها الصندوق كل تلك المدة من الزمن كانت مزيفة .. وأنها حتى ...أقل من قيمة الصندوق الذي يحويها .
كانت الدموع تنهمر من عيني ...لم أستطع إيقافها ...بكيت على فراق جدي الحبيب بحرقة وألم وحزنت عليه وعلى كنزه...... الذي أبى إلا أن يغادرنا معه.
وبقي التساؤل في نفسي .. هل كان جدي .... يعلم حقاً .... حقيقة كنزه ....؟؟؟؟